مشاركة: التأميــن
أصول التأمين :
الواقع إن الفكرة الكامنة في التأمين ليست إلا التكافل والتعاون بين أفراد المجتمع يجري تقنينه وترتيبه بطريقة منظمة بتصميم نظام حيث له منسجم مع التطورات المالية والاقتصادية. وخلاصته إن يقوم مجموعة من الناس يتعرضون لمخاطر متشابهة بضم تلك المخاطر إلى بعضها البعض (عن طريق شركة متخصصة) والاشتراك في رصد ما يكفي من المال لتعويض من يقع عليه المكروه خلال فترة معينة. ولما كان من طبيعة المخاطر التي يغطيها التأمين إن يقع المكروه على البعض فقط وليس على الكل، صار دفع كل فرد مبلغا صغيراً كافياً لتعويض البعض الذي يتعرض لذلك المكروه خلال المدة المتفق عليها. فالإنسان يتعرض في حياته وأثناء ممارسته لعمله ونشاطه للعديد من المخاطر، وينتج عن ذلك وقوع المكروه الذي يسبب خسارة مادية أو معنوية.
وقد تزايدت أهمية التأمين بقدر ما تطورت الحياة وتحسنت سبل المعاش وزادت رفاهية الإنسان إذ يترتب على ذلك زيادة في المخاطر التي يتعرض لها الإنسان. والخطر ليس هو الخسارة بل هو احتمال وقوع المكروه، أي أن يكون الإنسان بين أمرين ليس يدري أيهما يقع أحدهما المكروه الذي يحذر والآخر هو السلامة منه. ولما كان ما يخشاه الإنسان هو هذه الخسارة، وجدنا إن المخاطر تتعاظم مع كثرة الغنى وتعدد الأصول المملوكة للإنسان وارتفاع مستوى المعيشة وزيادة الثراء، لأنه بقدر ما تكثر هذه الممتلكات بقدر ما تعظم الخسائر التي تترتب على وقوع المكروه وتزداد حاجته للتأمين.
ولهذه الخسائر أسباب هي المكروه الذي يحاذر الإنسان منه مثل الحريق، واصطدام السيارات، والمرض الذي يصيب الإنسان ويسبب له الألم أو يفقده القدرة على الكسب والموت والفيضانات والزلازل التي تسبب خسارة الأموال وهلاك الحرث والنسل....الخ.
والخسارة في لغة التأمين (أي التي إذا وقعت استحق المستأمن التعويض) لها معنى محدد هو: "انحطاط قيمة أصل من الأصول بسبب غير متعمد"، مثل تلك التي تسببها الحوادث والكوارث في الممتلكات أو يسببها الموت أو المرض والعوارض الأخرى في جسم الإنسان ولا يدخل في معناها الخسارة في التجارة على سبيل المثال.
إن تفادي المخاطر والحرص على السلامة طبع للإنسان وهو جزء من فطرته التي يشترك فيها مع كل كائن حي. ولذلك فالتأمين تدفع إليه هذه الغريزة، ويعد جزءاً من سعي الإنسان بطرق متعددة للحرص على السلامة وهذه الطرق عرفها الإنسان منذ القديم وتبناها واعتمد عليها بدرجات مختلفة حتى يوم الناس هذا، يواجه بها المخاطر التي تحدق به في حياته، منها :
أ- الحذر والحيطة، بالابتعاد عن الأماكن والأحوال التي تزيد من احتمال وقوع المكروه مثل الامتناع عن الأفعال والسلوك الذي يسبب الضرر في الحل والترحال والعمل والراحة، فمثلاً السرعة في قيادة السيارة أمر يجعل احتمال التعرض للحوادث أكبر من التأني في ذلك، كما إن المحافظة على صيانة الأجهزة يطيل عمرها ويقلل خطرها وهكذا.
ب-ومن طرق مواجهة المخاطر الترتيبان التي يتبناها الفرد لنقل هذه المخاطر إلى جهة أخرى، فالمقاولة من الباطن، على سبيل المثال، هي وسيلة لنقل مخاطر العمل من العاقد الأصلي إلى أطراف أخرى. وكذلك الشروط في العقود التي تحمي بعض أطرافها، والشروط الجزائية وطرق الاحتماء المختلفة في المعاملات التجارية كل ذلك من طرق تقليل المخاطر.
ج- ومنها السعي نحو تقليل الخطر بالتنويع فلا يضع الإنسان "البيض كله في سلة واحدة" كما يقولون من ذلك مثلاً توسيع العمليات التي تقوم بها الشركة على رقعة جغرافية أكبر، فالخطر الذي تتعرض له الشركة التي يكون لها 50 مستودعاً أقل، للمستودع الواحد من تلك التي يكون لها مستودع واحد كبير. إلى آخر ذلك مما هو معروف لا يحتاج إلى بيان. وكله يدل على سعي الإنسان إلى تفادي المخاطر.
إن التأمين بمعناه الحديث صيغة من صيغ "إدارة" المخاطر وجذوره التكافل بين أفراد المجتمع الذي هو أساس الاجتماع في كل دورات التاريخ. وقد عرفت كل المجتمعات الإنسانية أنماطاً عن التكافل والتعاون، وما زال الناس يهرعون إلى نجدة الملهوف ومساعدة المصاب ومد يد العون إلى المحتاج. ومجتمعات الإسلام هي غرة جبين الزمان في حرصها على التكافل وعنايتها بالتعاون وحث دينها على مثل ذلك في الأخلاق وفي القوانين الفقهية التي تنظم المعاش وتحكم العلاقات بين الأفراد. ومن أعظم مؤسساتها الزكاة والوقف ونظام العاقلة. فكأن التأمين قائم بينهم بالتزام كل قادر منهم بمساعدة إخوانه ممن يقع عليه المكروه دون الحاجة إلى وجود جهة مركزية تنظم هذا بينهم بعقود واتفاقيات. إلا أن هذا الأمر قد اعتراه التبدل الذي وقع في حياة المجتمعات في العصور الحديثة الأمر الذي احتاجت معه صيغ التكافل والتعاون إلى مؤسسات متخصصة يقتصر عملها على تنظيم وظيفة التكافل والنهوض بحاجة الناس إلى مساعدة بعضهم بعضاً عند وقوع المكروه. فظهرت مؤسسات التأمين كما نعرفها اليوم.
ورب سائل: لماذا احتاج الأمر إلى مؤسسات متخصصة ولم يعد يكفي فيه ما كان عليه الأوائل من ترتيبات للتعاون والتكافل ضمن نطاق العلاقات الاجتماعية أو المهنية أو علاقات الجوار والرحم.
والجواب عن ذلك :
أ- إن المخاطر التي كانت تحدق بالفرد في الزمان القديم محدودة ومتشابهة بين فرد وأخر، وسبب ذلك بساطة الحياة وضآلة قيمة الأصول المملوكة للناس وقلة أنواع السلع والخدمات. ولذلك كان التزام الفرد بمساعدة الآخرين إنما هو التزام قابل للتوقع بصورة عفوية وممكن التقدير والقياس بسهولة. فالمخاطر متشابهة، ومستوى العيش متقارب. ثم لما تطورت سبل العيش وتحسنت وسائل المواصلات وتنوعت التجارات وأرتفع مستوى الرفاهية بظهور أنماط وأنواع مستجدة من السلع والخدمات كالسيارات والطائرات والكهرباء والالكترونيات...الخ. زادت هذه المخاطر زيادة عظيمة في الحجم والقيمة وتنوعت فلم تعد متشابهة كما كانت في الماضي ولذلك فإن من يعمل في التجارة يتعرض لمخاطر مختلفة تمام الاختلاف عن الطبيب أو العامل في محطة الكهرباء أو المعلم في المدرسة....الخ. واصبحت الفجوة بين الغني والفقير عظيمة. فأصبح التزام كل فرد بمساعدة الآخرين يترتب عليه تحمل بعضهم تبعات عند حدوث المكروه للآخرين أكثر من البعض الآخر مما احتاج معه إلى تنظيم تتحدد بموجبه قدر المسؤولية بقياسها بمقدار الخطر.
ب- كانت جميع النشاطات التي يقوم بها الأفراد تتم بصفة مباشرة ضمن شبكة العلاقات الاجتماعية القائمة. ففي مجال التعلم، كان العلم يتلقاه التابع عن الشيخ، والمهنة يأخذها المتدرب عن الحرفي الماهر..الخ، ولكن لما تطورت المجتمعات صار الناس يتعلمون في مؤسسة متخصصة تسمى الجامعة أو الكلية أو المعهد الصناعي.
وكذلك حال التكافل إذ كان يتم ضمن علاقات النسب بين أفراد القبيلة الواحدة أو الجوار في الحي أو المهنة الواحدة أو أهل السوق الواحد...الخ. ثم لما جاء عصر التخصص وتقسيم العمل ظهرت المؤسسات التي تخصصت في تلك النشاطات التي كان يقوم بها الأفراد في القديم. المهن الصناعية التي ظهرت لها المعاهد المتخصصة والكليات. وليس حال التكافل استثناء من ذلك. فقد كان تعاون الناس ومساعدة بعضهم البعض يتم من خلال علاقات القرابة والجوار والرحم...الخ. فأحتاج الأمر إلى إن تتخصص فيه مؤسسة فظهرت مؤسسات التأمين تماماً كما ظهرت البنوك مؤسسات للوساطة المالية والشركات المساهمة والجامعات والمعاهد والمنظمات الدولية...الخ.
قانون الأعداد الكبيرة:
ما كان للتأمين بصورته المعاصرة إن يظهر لولا اكتشاف ما سمي في علم الإحصاء قانون الأعداد الكبيرة. ذلك إن سر التأمين ينكشف في الإجابة عن السؤال: كيف يمكن من خلال تجميع المخاطر على مستوى مجموعة من الأفراد (وهو عمل شركة التأمين) إلى تقليل المخاطر التي يواجهها كل فرد من تلك المجموعة (وهو غرض المستفيد من التأمين) إنه قانون الأعداد الكبيرة (أو قانون المتوسطات).
يعود إكتشاف هذا القانون إلى عدة قرون مضت عندما لاحظ الرياضيون في القرن السابع عشر في أوروبا عند أعدادهم لقوائم الوفيات إن عدد الموتى من الذكور والإناث من كل بلد يميل إلى التساوي كلما زاد عدد المسجلين في القائمة. وقد أصبحت دراسة هذه الظاهرة جزءاً من علم الإحصاء عندما كتب عنها سيمون بواسان وسماها قانون الأعداد الكبيرة لما بدا له من إنها تشبه نواميس الطبيعة. وقانون الأعداد الكبيرة يتعلق باستقرار تكرار بعض الحوادث عند وجود عدد كافٍ منها، مع أنها تبدو عشوائية لا ينتظمها قانون إذا نظر إليها كل واحدة على حدة. مثال ذلك مصيبة الموت فهي تبدو خبط عشواء لا يمكن التنبؤ بوقوعها على فرد بعينه، ولكننا لو تحدثنا عن عدد الوفيات التي ستقع خلال العام الحالي في مدينة جدة على سبيل المثال لأمكن – بناءاً على الخبرة السابقة- إن نتوقع عدد الوفيات بشكل دقيق (إذا سارت الأمور على طبيعتها). نحن نعلم إن القول بأن أحداً لن يموت خلال العام في مدينة يسكنها أكثر من مليون أمر لا يقبل. وإذا استثنينا الكوارث والمصائب العامة والتغير الكبير في عدد السكان فان الاحتمال الأكبر إن عدد الوفيات هذا العام لن يختلف كثيراً عن الأعوام السابقة. فإذا كان لدينا عدداً كافياً من أعوام سابقة نستخرج منه متوسط فربما استطعنا توقيع عدد الوفيات لهذا العام بكل يسر وسهولة وبمستوى عالٍ من الدقة. هذا القانون الإحصائي هو الأساس الذي يقوم عليه التأمين.
إن الاستحالة التي تبدو قطعية عند محاولة توقع حادثة معينة تنقلب إلى ما يشبه اليقين إذا كان ما نحاول توقعه هو عدد كافٍ من الحوادث المشابهة. فنحن لا نستطيع إن نعرف إن كان زيد أو عمرو سيتعرض لحادث اصطدام في سيارته خلال العام الحالي لأن ذلك في علم الغيب. ولكننا نستطيع إن نعرف بشكل بالغ الدقة كم عدد الناس الذين سيتعرضون لحوادث السيارات في مدينة جدة خلال هذه السنة، اعتماداً على وجود عدد كافٍ من السنوات التي نستطيع منها إن نستنتج ما نريد بناء على قانون الأعداد الكبيرة.
__________________
لا الـــــــــــه إلا الله
if you fail to plan you plan to fail
كلنا نملك القدرة علي إنجاز ما نريد و تحقيق ما نستحق
محمد عبد الحكيم